قرأت مرة مقولة جميلة تقول ''القائد الجيد يلهم الناس ليثقوا به، أما القائد العظيم، فإنه يلهم الناس ليثقوا بأنفسهم''. ليس بالضرورة أن يكون القائد هذا هو قائداً عسكرياً أو قائد دولة، بل قد يكون قائد حافلة، أو مدير شركة، أو مدرساً في مدرسة ابتدائية، أو موظفاً حكومياً... المهم أنه يؤثر في الناس بطريقة أو بأخرى.
عندما كنّا صغاراً، كنا نخشى في المدرسة من شيئين، الأول هو الضرب، والثاني هو القلم الأحمر. وليت الأساتذة استعاضوا بالضرب عن اللون الأحمر، فهذا الأخير، لازال يؤرقنا حتى يومنا الحاضر. كانت أصعب لحظات الطالب في المدرسة، هي تلك التي يقضيها في طابور تصحيح الواجب، ذلك الطابور القصير طولاً، الطويل زمناً. كنّا نقف على وجل، ندعو الله ألا يكون مصيرنا كمصير ذلك الطالب الذي شُوَّهت كراسته باللون الأحمر. نضع الكراسة أمام المدرس ثم نبدأ بالكلام عن أشياء عديدة لتشتيت انتباهه، وإذا به يستلّ سيفه من جيبه، ويُعْمِلَه، ليس في الدفتر فقط، ولكن في أحلامنا وطموحاتنا، في ثقتنا بأنفسنا، في مستقبلنا، وفي عواطفنا ومشاعرنا. وكلّما طعن بسيفه الأحمر كلمة هنا، صرخ رقم هناك، وإذا به يتلقى ضربة لتودي بحياته هو الآخر.
بقلم كان المدرسون في المدرسة يبحثون عن الخطأ، أو عن النصف الفارغة من الكأس، حتى وإن كان هذا الفراغ يمثل الثلث أو الربع فقط، فإنهم لا ينظرون إلى الجزء الممتلئ أبداً، وكان كل همّهم هو إسالة الدماء (الحمراء) إلى الركب.
يعتبر اللون الأحمر هو لون الحروب، وعند البعض، هو لون القوة والعنف، كما يصور البعض الشيطان على أنّه أحمر. وعند البعض أيضاً، يُعتبر اللون الأحمر هو لون الحب، ولون الأنوثة، وكانت الناس تتغزل في المرأة التي يتورّد خداها، أي يتحولان إلى اللون الأحمر أو الوردي.
يرتدي كثير من رجال الأعمال ربطة عنق حمراء للتعبير عن قوّتهم وإصرارهم، وفي بعض المناسبات، تُفرش لكبار الشخصيات سجّادة حمراء للتعبير عن أهميّتهم في المجتمع. أما في الإضاءة، فإن الأحمر يعتبر لون الخطر، فإشارة التوقف لونها أحمر، وسيارة الإسعاف تشعل الضوء الأحمر عندما يكون المريض في حالة خطرة.
في الصين والشرق بصورة عامة، يعتبر اللون الأحمر هو لون البهجة والفرح، فالعروس تلبس اللون الأحمر يوم زفافها، أما في جنوب إفريقيا، فإنه لون الحِداد، وفي روسيا، فإن الأحمر قد استخدم في شعارات الثورة البلشفية، وأصبح منذ ذلك الحين لصيقاً بالشيوعية.
أعرف أحد الأشخاص الذين يخافون من استخدام القلم الأحمر، حيث يرفض أن يدخله مكتبه أو حتى بيته، وعندما سألته عن السبب، قال لي إن القلم الأحمر يمثّل له التسلّط، فبذلك القلم البسيط، كان أستاذه يريه الويلات كل يوم، وكان كلّما استلم شهادته، يرى بها دوائر حمراء، ودائماً ما كان يتساءل، لماذا لم تكن زرقاء أو خضراء! فقلت له بأن الأحمر أكثر وضوحاً، فقال لي:''بل لأنّه أكثر دموية''.
نشأنا ونحن نحب ذلك القلم ونكرهه في الوقت نفسه، وكنّا نسعى للحصول على نجمة حمراء أو اثنتين في كراسة الواجب حتى نريها لكل من في البيت. ورغم أن بعضنا كان متأكداً من أنه قد حلّ الواجب بطريقة سليمة، إلا أن كل شيء كان يعتمد على مزاج المدرّس ولا شيء آخر.
لم يفكّر أحدنا يوماً في أن يناقش المدرس في قلمه الأحمر، بل إننا لم نفكّر يوماً بأن المدرس قد يكون على خطأ ونحن على صواب. لم تكن الحقيقة همّنا، وكنّا نسعى في المدرسة من أجل إرضاء المدرس وليس فهم الدرس. طلب منّي أحد المدرسين مرة أن أكذب ففعلت دون أن أتردد، وما كان منه إلا أن ضربني بعصاه ''الحمراء'' معللا ذلك بأنه كان يريد أن يختبرني فقط، وكان علي أن أرفض قول الكذب، ولكنني كنت أقسم لزملائي بأنني لو رفضت طلبه لضربني أيضاً.
كان القلم الأحمر مصدر تشويش نفسي لنا كطلبة، فبجرّة منه كنّا نرتفع، وبأخرى كنا نسقط. أحد أساتذتي كان يعلّق ثلاثة أقلام في جيبه العلوي، كلّها حمراء، وكان عندما يريد أن يستخدم لوناً آخر، كان يستعيره أو بالأحرى ينتزعه من أحد الطلبة.
في الأفلام والمسلسلات، عندما تغضب الحكومة فإنها تغلق دكّان فلان بالشمع الأحمر، ولازلنا نسمع حتى اليوم بأنه علينا ألا نتجاوز الخطوط الحمراء. لابد وأن يكون كل خطر أحمر مصدره ذلك القلم المقيت، الذي لايزال مداده يضخ في عالمنا العربي في كل صغيرة وكبيرة، فالذين يُغضِبون المدرس تفجّرهم الألغام المدسوسة بعد الخط الأحمر مباشرة، والذين يُرضُونه تُفرش لهم السجادة الحمراء، ويقضون ليالٍ حمراء إلى الأبد.
أقترح أن نقاطع اللون الأحمر، ونستعيض عنه بالأخضر، فالأخضر هو لون السلام، ولون العشب، ونجده في معظم شعارات ''إيرلندا'' ذات الطبيعة الخلاّبة. والأخضر أيضاً هو لون راية الإسلام، وهو يرمز إلى الربيع دائماً. ولكي نفعل ذلك، فإنني أقترح أن تعلن وزارات التربية والتعليم في جميع أنحاء الوطن العربي منع استخدام الأقلام الحمراء، واستخدام الأقلام الخضراء بدلاً منها، علّنا نوجد جيلاً عربياً جديداً يحب المدرس، ويعمل معه لا من أجله.